وسط الآلاف من الزائرين، والعارضين، وأمام عدسات التليفزيون في افتتاح المعرض الزراعي بباريس، والذي أحضره سنوياً.. مَدّ «الرئيس» ساركوزي يده لمصافحة أحد الفلاحين العارضين أبقارهم.. والفلاح يرفض أن يصافح الرئيس، ويصمم الرئيس مقرباً يده لجسم الفلاح، والفلاح يبتعد حتي لا تلمس يد الرئيس جسده، وبصوت جهوري غاضب، يقول «الفلاح» لرئيس الجمهورية: «ابعد يدك لا تلوثني».. والرئيس يبعد يده قائلاً للفلاح: «غور..أيها المعتوه المسكين».. وظل الفلاح مكانه يكمل شتائمه وسبابه، وانتقاداته لسياسة الرئيس!! صباح اليوم التالي خرجت مانشيتات الصحف «تلوم» الرئيس علي «شتمه» المواطن بالرد عليه.. فـ«المواطن» من حقه أن يعبر عن رأيه بكل الطرق، والوسائل السلمية.. وليس من حق «الرئيس» أو غيره من المسؤولين، مادام أنه في «الوظيفة الميري» أن يغضب أو يضيق صدره، أو يرد.. فحق الرد بانفعال ليس مكفولاً للموظف العام، فالمواطن دائماً علي حق!! مساء اليوم نفسه، وتحت قبة البرلمان، وقفت نائبة «امرأة» من المعارضة تطالب المجلس «الموقر» أن يسحب حق التحكم في «الزر» النووي من يد «ساركوزي» بسبب اندفاعه، وانفعاله السريع في هذا الحادث، وباعتبار أنه يمكن أن يعرض البلاد والعالم للدمار، إذا كان هذا هو أسلوبه في معالجة الأمور العادية.. ويصدر «الإليزيه» بياناً يقول فيه: «.. ما كان يجب علي الرئيس أن يرد علي المواطن بهذه الصورة».. ثم يخرج الرئيس بنفسه «يعتذر بأدب» إلي الشعب الفرنسي المحترم. تخيل السيناريو نفسه في إحدي الدول المتخلفة.. وجلالة الملك أو سمو الأمير، أو فخامة الرئيس «صاحب العزبة» يمد يده لأحد «الرعاع» من مواطنيه.. وهذا «النكرة» يرفض مصافحة «القائد» مالك الدبابات والجيوش والذخيرة الحية، وولي النعم، والمواطن «المفعوص».. «الجربان».. قليل الأدب، وعديم التربية، والمختل عقلياً «بشهادة رسمية» و«الكافر» بفتوي شرعية «جاهزة» يستمر في انتقاد «الحاكم» علناً ماذا يمكن أن يحدث؟ جلسنا كمجموعة من زملاء المهجر علي مقهي بالشانزليزيه مستلقين علي قفانا من الضحك، ونحن نتخيل مثل هذا السيناريو، ومما قلناه: - أولاً: جلالة الملك أو سمو الأمير، أو فخامة الرئيس «الجنرال» في البلدان العربية لا يذهب لافتتاح معرض زراعي، باعتبار أن «الفلاحة» هي من أعمال الجهلة، ومن ليس لديهم كفاءات، وغالباً معظمهم مصابون بالبلهارسيا، والبلاجرا، والانكلستوما، والسل، والتيفود، وفيروسات الكبد الوبائي، فكيف يتعرض صاحب «السمو» لانتقال العدوي بمصافحة أمثال هؤلاء؟ - ثانياً: بلداننا العربية ليست بلدانا زراعية، والاستعمار وأذنابه هم الذين لصقوا بنا هذه التهمة الشنيعة بقصد إبعادنا، وإلهائنا عن غزو الفضاء، و«النانو» تكنولوجي! - ثالثاً: إذا حدث «وتواضع» فخامته ووافق، فسوف يغلق المعرض قبل وصول «الموكب» بيومين، لتتولي الأجهزة الأمنية البحث والتحري، والتمشيط، لانتقاء المختارين من الزائرين، وتوضع السجاجيد الحمراء علي «ممشي» محدد بعينه يصل إلي عدد محدود من العارضين المعروفين، والموالين، ويفضل «الملطوطين» الذي ينحنون، ويمدون أيديهم قبل أن يصافحهم الحاكم، و«عينهم» في الأرض. - رابعاً: إذا حدث «لا قدر الله» وتخيل «مواطن» شايف نفسه حبتين، لأنه حاسس إنه «مواطن بجد» يؤدي واجبات المواطنة بحذافيرها، ومصدق «مسرحية» إنه بيعيش «أزهي» عصور الديمقراطية، وصاحب حق في إبداء رأيه.. ورأيه أن سياسة «الحاكم» ستؤدي أو أدت إلي خراب البلد.. فيرفض مصافحة «جلالته» ويقول له ما قاله المواطن الفرنسي.. فماذا سيحدث؟ ١- الحرس المستورد والمدرب في «أبوغريب»، والمؤهل بـ«جوانتانامو» سيقفز علي «المفعوص» ويطرحه أرضاً، ويختفي أثره، وإذا ظل حياً ستتشرد أسرته.. وستحاصر قريته.. وسيقال «الوالي» أو محافظ الإقليم.. وستطير فيها رؤوس كبيرة من المساعدين والرتب اللامعة. ٢- سيسحب أصل الفيلم الخام من مصوري التليفزيون، ورئيس الديوان يحتفظ به لنفسه ربما يحتاج إليه يوم سقوط «الحاكم» أو ليلة القبض عليه فجر «ثورة الجياع»! ٣- الصحافة ستتجاهل الموضوع.. وإذا تجرأت ستنشر في سطرين: مختل عقلياً حاول اغتيال جلالة وعظمة وسمو وفخامة ولي النعم المفدي والمبجل وكبير العائلة. ٤- يحرم الفلاحون لربع قرن من زيارة «الحاكم»، وربما يتم إلغاء المعرض أو دمجه مع نشاط آخر.. ولا يذكر في الإعلام كلمة فلاحين، ولا يظهر أي فلاح «خسيس» في أي مناسبة رسمية. ٥- تعليق لبعض الكتبة الموالسين والمأجورين بالصحف: يتساءلون: أين أخلاق القرية؟.. ويا خسارة علي فلاح زمان الطيب، الأصيل، المؤدب، المهذب، الذي كان ينحني ويقبل يد الكبير.. وآدي أخرة الحرية والديمقراطية.. لو كان هذا «الخرسيس» في الزمن الماضي لدفنته الأجهزة بهدومه حياً، ونهشته الكلاب الضالة. * ويبقي السؤال: - هل شعوبنا العربية لا تستحق «الاحترام» والمواطنة الحقيقية، لأنها شعوب «خاملة».. «متواطئة»، و«فاسدة»؟ - هل «الحاكم» هو المسؤول الأول والأخير عما حدث ويحدث وسيحدث لنا؟ - أم أن «شريحة» المثقفين، والطبقة المستنيرة هي الموالسة، والخائنة لدورها، والمنافقة بلعبها علي مشاعر الجماهير كسباً لرضاهم، أسهل لها من مواجهة الشعوب وكشف عيوبها وسلبياتها؟
وانتهت المساحة وفي انتظار آرائكم و«الوسطاء يمتنعون».